الخميس، 5 مايو 2016

“الله الصمد”.. من نقوش أوغاريت إلى القرآن الكريم



الصمد: اسم من أسماء الله الحسنى في الإسلام، والمرة الوحيدة التي وردت فيها في القرآن الكريم كان في سورة الإخلاص وهي من السور القصيرة: “قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ”. 

وقد جاء في الحديث الشريف: قال صلى الله عليه وسلم: “أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ الله فَقَالَ: الله الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ”. 

هناك اختلاف صارخ بين المفسرين في معنى كلمة الصمد، إلى درجة أنه يظهر أن هناك جهلًا بالكلمة 

وبهذا الحديث جعل لهذه الآية رغم قصرها مكانة متفردة في القرآن الكريم، وعن أسباب نزولها جاء في التفسير أنها نزلت جوابًا على المشركين الذين طلبوا من الرسول، أن ينسب لهم ربه ويصفه لهم، أو في موضع آخر جوابًا على سؤالهم له: هَذَا الله خَلْق الْخَلْق، فَمَنْ خَلَقَ الله؟ 

اللافت حقًا هو الاختلاف الصارخ بين المفسرين في معنى كلمة الصمد، لدرجة أنه لن يساورنا شك ونحن نقرأ تفاسيرهم أن هناك جهلًا بالكلمة ومعانيها، يقول الطبري في تفسيره: “واخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي مَعْنَى الصَّمَد، قَالَ بَعْضهمْ: هُوَ الَّذِي لَيْسَ بِأَجْوَف، وَلَا يَأْكُل وَلَا يَشْرَب، أو الَّذِي لَا حَشْوَة لَهُ، وقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الّذي لَا يَخْرُج مِنْهُ شَيْء، إن غلبت هذه التفاسير نجد أن هناك تفسير يقول: إن الصمد هو الدائم وقال آخرون: بلْ هُوَ الْبَاقِي الَّذِي لَا يَفْنَى”، وعن الطبري أيضًا قَالَ أَبُو جَعْفَر: “الصَّمَد عِنْد الْعَرَب: هُوَ السَّيّد الذي يُصمَد إليهِ، الذِي لا أَحد فوقه، وكذلكَ تُسَمي أشرافهَا”. 

إذًا كيف يستقيم هذا التناقض الصارخ في شرح آية يتحدث فيها الله عن صفاته أنه: أحد، صمد، لا يلد ولا يولد، وليس له كفوًا، ليخرج لنا من يقول إنها تعني فيما تعنيه: أن الله لا أحشاء له، ولا يتغوط!! في هذه السطور سأحاول تقديم معنى مختلف عما درج عليه المفسرون القدماء منهم والمحدثون، لأضع الكلمة في سياقها الصحيح واللائق بإله الخليقة، فالتنقيب في “تاريخ الكلمة” سيقودنا إلى تاريخ مغرق في القدم ويسبق الإسلام بحوالي الألفي عام. 

أظن أن الدهشة سوف تعتريكم عندما تعلمون أن كلمة الصمد عثر عليها في نقوش مملكة أوغاريت، صاحبة الريادة في اكتشاف أقدم أبجدية في تاريخ البشرية، هذه اللغة التي دونت بين القرنين الرابع عشر ق.م والقرن الثاني عشر ق.م، وياللدهشة عندما نعلم أن الكلمة لم ترد فقط في نقوش أوغاريت، بل وردت العبارة بذات صيغتها القرآنية “الله الصمد”، أي قبل الإسلام بمئات وربما آلاف السنين، على اعتبار أن اللغة الأوغاريت كانت مستخدمة قبل تدوينها. 

أول ظهور لكلمة الصمد كان في نقوش ممكلة أوغاريت، صاحبة الريادة في اكتشاف أقدم أبجدية في تاريخ البشرية 

لنقرأ في القاموس الأوغاريتي الصادر في روما 1965: صمد smd: تعني العصا. يقول الدكتور بهجت القبيسي في كتابه “فقه اللهجات العربيات”: “وقد وردت الكلمة في القاموس الأوغاريتي الذي وضعه العالم جوردن، ضمن جملة أوغاريتية هي: “smd il/ صمد إيل/الله الصمد” أي عصا إيل”. وإيل من أقدم آلهة الشرق، وهو رب الأرباب في التاريخ القديم، ومن أسماء الله حتى في الديانات الإبراهيمية التوحيدية اليهودية والمسيحية والإسلام، ومنه جبرائيل وإسماعيل (سمع إئيل) ..إلخ.

سيقول قائل: أليس من الهراء أن يقول الله سبحانه عن نفسه في الآية: قل هو الله أحد، الله “العصا”، وسأجيبه: أن من سينظر إلى حرفية الكلمة، دون أن يكون له علم بتاريخها القديم كما كان حال كثير ممن حاول تفسيرها، سيعتقد أن هذا المعنى السطحي هو المقصود، ولكن قبل الحكم بذلك، يجب الانتباه أولًا إلى أن الكلمة وردت في النقش المشار إليه سابقًا، مصاحبة لاسم الإله “عصا إيل/عصا الله”، وفي تاريخ الأمم القديمة كان هناك عرف بأن من يمتلك صمد إيل/عصا إيل/عصا الله يعني أنه امتلك السلطة والنفوذ وأصبح الملك، وفي التاريخ القديم أيضا اشتهرت “عصا إنانا” -ربة الخصب والحياة في بلاد الرافدين- التي صنعت من شجرتها المقدسة التي تمنح للملوك لتثبيت سلطتهم الأرضية واعتبارهم ممثلي الآلهة بين البشر، والمندوبين عنها في إدارة شؤون “القطيع البشري”. 

وهذا ما نجده بجلاء لا لبس فيه في كثير من أساطيرهم وتواريخهم التي تقول صراحة إن من يمتلك الصولجان والعصا هو السيد، هو الملك المطاع، لا بل كان من الطقوس الرئيسية في مراسم تنصيب الملوك إعطاؤه عصا السلطة/عصا إيل، وهذا تقليد ظل، حتى وقت ليس ببعيد عنا، في تنصيب ملك بريطانيا. 

نقرأ في الكتاب الشيق “رمز الراعي: في بلاد الرافدين ونشوء فكرة السلطة والملكية للباحثة إلزة زايبرت” أن العصا التي اشتهر الرعاة بحملها تشكل منذ قديم الزمان أهم رموز إلهة الخصب في الشرق القديم، لا بل ظل شكلها يدمغ على الأختام والأواني النذرية والآلات الموسيقية والتماثيل والأنصاب، بشكل يظهر أن كل ما يدمغ عليه هذا الرمز هو تحت حماية ربة السماء والأرض إنانا. كانت الآلهة بعد أن يقع اختيارها على “الراعي” الذي سيحكم الشعب تمنحه الرموز الملكية وهي “عصبة الرأس الملكية” (التي صارت تاجًا فيما بعد، والصولجان، وعصا الراعاة المعكوفة) وقد مجدت الإلهة إنانا لأنها أعطت الراعي عصا الرعاة.. وأعطت الملك صولجان الحياة. 

من طقوس مراسم تنصيب الملك إعطاؤه عصا السلطة، عصا إيل، وهذا تقليد ظل سائدًا حتى وقت ليس ببعيد عنا 

تخبرنا الأساطير القديمة أن الملك الآشوري “توكولتي نينورتا الأول” -الذي تمكن من ضم بلاد بابل إلى حكمه في القرن الثالث عشر ق.م- عندما اعتلى العرش لاقى استحسانًا في عيني الرب “إنليل”، فأعطاه العصا المباركة ليهش بها على قطيعه/شعبه بتؤدة ورفق. 

وجاء في مديح سومري بحق الملك البابلي “سمسو إيلونا” في القرن السابع عشر قبل الميلاد: بعصا العدالة، التي أعطاك إياها الرب/تسوس البشر، وبالصولجان/تقوم اعوجاجهم”. ويذكر الملك البابلي حمورابي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، في مقدمة شريعته المشهورة على مسلته الشهيرة: “لقد اختارتني الإلهة الكبيرة دون الناس جميعًا لأكون الراعي الذي يسهر على راحة رعيته ويُقوّم اعوجاجهم بعصاه المستقيمة”. 

ونجد في أقدم طقوس “السلطة والملكية” في مصر القديمة الرمزية السلطوية المقدسة ذاتها لحامل العصا، وهذا ما يتجلى بوضوح في أحد أقدم الأعياد في مصر القديمة وهو “عيد السد” والتي تعود بعمقها التاريخي إلى عصر الملك مينا، موحد المصرين مؤسس عصر الأسرات حوالي عام 3200 ق.م. في هذا العيد “كما جاء في كتاب الديانة المصرية القديمة”، كان يعاد فيه تمثيل توحيد مصر العليا ومصر السفلى وكانت المرحلة ما قبل الأخيرة لطقوس هذا العيد تتمثل “برقصة طقسية تمثل القمة الدرامية للعيد ويشارك فيها ملك البلاد حيث يرتدي الزي الطقسي ويسلمه الكاهن صولجان صغير وعصا الراعي في يديه، ويبدأ بتقديم الشكر للإله الذي ساعد المصريين في توحيد المصرين. 

ضمن هذا السياق التاريخي المغرق في القدم، سنفهم معنى “صمد إيل، الله /عصا إيل”، وسنفهم تاريخ أن العصا برمزيتها المقدسة هي عصا المُلك والسلطة والنفوذ، ويمكننا الآن توسيع أفق بحثنا بمعرفة معنى كلمة الصمد في لغات المشرق العربي القديم جميعها فـ” كلمة” صَمادو samadu: كما نطالع في المعجم الآكادي، تعني: هيأ، وصل (جمع بين اثنين أو أكثر)، ربط. 

الصمد هو العصا المقدسة التي تمكن حاملها من جمع وربط الجميع تحت مُلكها 

وبإضافة المعنى الأوغاريتي، وهو العصا، لما سبق، نعرف أن الصمد هو العصا المقدسة التي تمكن حاملها من جمع وربط الجميع تحت مُلكها، والمدهش حقًا أن الضرب بالعصا في لغة العرب له فعل خاص وهو “صمد”، جاء في لسان العرب لابن منظور: صَمَده صَمدًا: إذا ضربه بالعصا، وصمّد رأسه تصميدًا: أي لفّ رأسه بخرقة أو منديل ما خلا العمامة.. وبهذا المعنى نجد أن لغة العرب تجمع بعبقريتها في كلمة واحدة تاريخ الرموز المَلكية: العصا وعصبة الرأس/التاج. 

وتعني أيضًا كما يقول بعض علماء اللغة الآرامية “السيد” الذي يجمع الأفراد المشتتين أي الجامع، صاحب السلطة أي أنه الواحد الذي ينضوي الكل تحت سلطته، أو الواحد الذي يجمع الكل تحت ظله، وبهذا المعنى يستقيم تفسير آية الإخلاص التي يجيب فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عن سؤال المشركين له، عن صفات إلهه قائلًا: “بسم الله الرحمن الرحيم: قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد”. 

أي الله هو الواحد الجامع للكل صاحب المُلك ومانح المُلك لعباده، لم يلده أحد لأنه الخالق وليس له ولد لأنه واحد، وليس كمثله شيء مما تدركونه أو ترونه. وبهذا المعنى سنفهم أيضًا قانون الإيمان الشهير في الكنيسة المسيحية الذي هذا مطلعه: نؤمن بإله واحد آب ضابط (جامع) الكل، خالق السماء والأرض وكل ما يرى وما لا يرى.