الأحد، 8 نوفمبر 2015

كيف احتلت أوروبا العالم؟


“لا هدف، ولا أفكار، ولا حرفة… غير الحرب.” ميكافيللي احتل الأوروبيون 84% من العالم كله ما بين عامي 1492 و1914، وأنشؤوا المستوطنات وخلفوا تأثيرًا لا يُنكره أحد في كل بقعة مأهولة. ما حدث لم يكن أمرًا حتميًا، بل على العكس تمامًا؛ فقد تعجب المؤرخون وعلماء الاجتماع والأحياء لزمن طويل وتساءلوا عن كيفية وسبب الصعود الأوروبي لقمة العالم، حتى عندما كانت المجتمعات في آسيا والشرق الأوسط أكثر تقدمًا بكثير.


كان الحصول على إجابة وافية لمثل هذا السؤال المهم أمرًا متعذرًا. هذا بالرغم من شدة أهمية هذا السؤال نظرًا لأن قوة أوروبا هي التي تحدد كل شيء بداية ممن يسيطر على تجارة العبيد قديمًا، وحتى من يغتني أو يرزح في الفقر.

هل كانت الهيمنة الأوروبية نتيجة للثورة الصناعية؟

قد يظن البعض أن سبب هيمنة أوروبا على العالم أمر شديد الوضوح وهو الثورة الصناعية، بالإضافة لمناعتهم ضد بعض الأمراض كالجدري وهو الذي أباد العديد من السكان الأصليين في بعض البلدان. لكن السبب السابق وحده لا يمكنه تفسير غزو الأوروبيين للأميركتين، حيث نجا العديد من سكان أمريكا الأصليين من الأوبئة. كما يفشل أيضًا في تفسير الاحتلال الأوروبي للهند، حيث امتلك الهنود مناعة مماثلة ضد الأمراض. كما يفشل سبب “التصنيع” وحده في تبرير الأمر بأكمله، حيث استطاعت أوروبا احتلال 35% من مساحة العالم قبل ظهور بوادر الثورة الصناعية. بالطبع كان قيام الأوروبيين بتطوير تقنيات عسكرية حديثة بداية من البنادق والسفن المدرعة وحتى التحصينات المبتكرة مؤثرًا للغاية، ولكن بالمثل كان لدى كل الحضارات الكبرى الأخرى نفس التقنيات الحربية المعتمدة على البارود، بل وكان العديد منهم يستخدم البنادق أيضًا.

إذًا، فما الذي ساهم في نجاح الأوروبيين؟ في الأغلب، حدث ذلك بسبب المحفزات التي واجهها القادة السياسيون في أوروبا، تلك المحفزات التي لم تدفعهم لإشعال الحروب فقط، بل ولإنفاق المبالغ الطائلة عليها. نعم، بنى الملوك الأوروبيون العديد من القصور وأنفقوا الكثير على رفاهيتهم، ولكن على سبيل المثال: كلف بناء قصر شاتو دي فرساي الضخم الملك لويس الرابع عشر أقل من 2% من حصيلة الضرائب. وذهبت بقية الأموال لتمويل المعارك والحروب. فقد نشأ هو وباقي ملوك أوروبا منذ الطفولة على السعي لاكتساب المجد في ساحات القتال، ولكنهم بالرغم من ذلك لم يتحملوا أية أعباء مالية أو حتى مخاطر فقدان عروشهم إذا ما تمت هزيمتهم. بينما واجه القادة في مختلف الأماكن الأخرى خارج أوروبا محفزات مختلفة جذريًا، وهو ما أبقى الكثير منهم في حالة ضعف عسكري. ففي الصين على سبيل المثال، تم تشجيع الأباطرة على خفض الضرائب والاهتمام بمعايش الناس بدلًا من السعي للمجد العسكري الذي يستحوذ على عقول ملوك أوروبا.
لهذا السبب، بالإضافة للعديد من الأسباب الأخرى، لم يتمكن القادة في كل مكان من ملاحقة الابتكارات الأوروبية في المجالات الحربية والعسكرية. فالأموال المتدفقة على القتال في أوروبا أعطت القادة العسكريين المرونة الكافية لشراء أسلحة ومعدات حربية جديدة وتجربة طرق تحصينات مختلفة وأساليب إمداد متنوعة. وخلال ذلك، تعلموا من أخطائهم وحسنوا من تقنياتهم. ولأن الدول الأوروبية صغيرة المساحة ومحدودة جغرافيًا فكان بإمكانهم التعلم من أخطائهم بسهولة، ويقتبسون نجاحات جيرانهم. فعلى سبيل المثال، عندما قام الملك السويدي جوستاف أدولفوس ببناء سفينة حربية ثنائية السطح غرقت سريعًا بعد إبحارها. ولكن البحرية السويدية وغيرها من البحريات الأوروبية تعلموا من هذا الخطأ سريعًا، وبحلول القرن الثامن عشر كانوا يبنون سفنًا ثنائية السطح أو حتى متعددة الأسطح، ولم تتميز فقط بكونها أكثر استقرارًا، بل كانت أيضًا أكثر قدرة على المناورة وذات مدى حربي أكبر.

فبدون التركيز أحادي التفكير على الحرب والقدرة العالية على فرض الضرائب، لم تكن لتقوم أي إمبراطورية أوروبية.
التطوير العسكري خارج أوروبا

بينما حدث العكس خارج أوروبا، فقد أعاقت الظروف السياسية والعسكرية مبتكرات الحروب، وخاصة تقنيات استخدام البارود، ومنعتها من التطور بنفس الوتيرة المتسارعة في أوروبا. الصين على سبيل المثال، كانت تنفق القليل جدًا من الأموال على الجيش مقارنة بالمعدل الأوروبي، وذلك لانخفاض حصيلة الضرائب بها عن أوروبا. ففي أواخر القرن الثامن عشر في فرنسا كانت الضرائب الواجبة على الفرد أعلى 15 مرة عن الصين، بينما وصل هذا الرقم إلى 40 ضعفًا مقارنة بإنجلترا. وحتى تلك الضرائب القليلة لم تذهب لتطوير ودعم نوع جديد من أساليب القتال، بل ذهبت لدعم الرماة راكبي الخيول والذين كانوا أكثر كفاءة بكثير من الفرسان ضد قبائل البدو، العدو الرئيسي للصين. وعلاوة على ذلك، كانت الصين هي القوة المهيمنة في شرق آسيا ولم يكن لديها منافسون كُثر يجرؤون على تحديها، مما يعني حافزًا أقل للإنفاق العالي للتطوير العسكري. وكنتيجة لذلك، كان هناك استخدام أقل لبنادق البارود في شرق آسيا.

على النقيض تمامًا، لم يكن بأوروبا قوة مُهيمنة مثل الصين في شرق آسيا. ولذا فبمجرد تسلم الغرب الصدارة في التقنيات الحديثة في الأسلحة المُستخدمة للبارود كان من الصعب على الصين اللحاق بهم، فمراكز التطوير كانت على بعد قارة كاملة.

استمرت القيادة الأوروبية في القرن التاسع عشر، وارتفعت حصيلة الضرائب مع دخول أوروبا عصر التصنيع، واستخدام المبتكرات الحديثة الناتجة من الثورة الصناعية – من التطبيقات العلمية والهندسية المختلفة. وأدى ذلك لتمكين الأوروبيين من أن يطوروا تقنياتهم، ولكن هذه المرة بالأبحاث العلمية بدلًا من التجربة والخطأ في الحروب، كما كان يحدث سابقًا. وهو الأمر الذي أدى لتضخم خبراتهم والمعرفة المتراكمة لديهم في أرض المعركة.

الضرائب

وبحلول عام 1914 لم يحقق الأوروبيون الهيمنة العسكرية على العالم فقط، بل أصبح لديها دول قوية بإمكانها جمع الأموال الطائلة من الضرائب لتمويل الحروب. ففي فرنسا وألمانيا ارتفعت النسبة الفعلية للضرائب على الفرد ما يزيد عن 15 ضعفًا عن القرنين الماضيين. وكان السبب الرئيس في تحصيل هذه الكمية الضخمة من الأموال هو الارتفاع الحاد في الدخل للأفراد، والذي تحقق نتيجة الثورة الصناعية، كما كان من نتائجها أيضًا التقدم العسكري الضخم. الفارق الوحيد بين الأمرين أن الأول كان نتيجة للتطوير الاقتصادي بدلًا من التطوير العسكري. ويعود الفضل في ذلك للقادة السياسيين الذين نجحوا في التفاوض مع قادة المجتمع على زيادة تحصيل الضرائب. وخصص القادة بعد ذلك هذه الضرائب الزائدة لتطوير الجيوش والأساطيل.
مقدرة أوروبا على تحصيل الضرائب لم تكن أمرًا هينًا. فالصين لم يكن باستطاعتها جني ضرائب مماثلة حتى في القرن التاسع عشر. والدول تحت الصحراء الكبرى في أفريقيا اليوم مازالت حتى اليوم تفتقد القدرة الأساسية على تحصيل الضرائب، مما يحول بينهم وبين تقديم بعض الخدمات الأساسية لمواطنيهم كالأمن.

دور المغامرين ورجال الأعمال الأوروبيين

ودائمًا ما كان يتم تشجيع هؤلاء الرواد من قبل السلطات للسعي لإيجاد الكنوز والثروات بالخارج
كان لدى أوروبا ميزة إضافية: فقد كان متاحًا لرجال الأعمال والمغامرين استخدام التقنيات الحربية الحديثة الخاصة بالبارود، للقيام بحملات استعمارية وإنشاء مستوطنات وتجارة الأسلحة. لكنهم بالطبع كانوا يحتاجون في أغلب الأحيان للحصول على إذن رسمي لبدء رحلاتهم، ودائمًا ما كان يتم تشجيع هؤلاء الرواد من قبل السلطات للسعي لإيجاد الكنوز والثروات بالخارج. كما لم يكن لديهم أي مشكلة في توفير الأسلحة أو إيجاد محاربين مخضرمين لتدريب المحاربين الجدد المنضمين إليهم. بحلول القرن السابع عشر، كانت هذه الحملات قد أنتجت مشاريع ضخمة ساعدت في تمويل وإنعاش السوق الأوروبية المزدهرة، ومن ثم ساعدتها على تمويل حملات أخرى للخارج. ومن هذه المشاريع كانت شركة شرق الهند الهولندية، والتي لم تكن مجرد ذراع للسياسة الخارجية الهولندية فقط، بل كانت أول من يُصدر أسهمًا قابلة للتداول.

الدول الأوروبية الصغيرة مقابل الإمبراطوريات الكبرى

الفارق المالي الحالي بين أوروبا وبين باقي العالم، نتج في الأساس بسبب أسباب سياسية تاريخية. فمنذ عام 221 قبل الميلاد وصاعدًا كانت الصين موحدة معظم الوقت في إمبراطورية كبيرة. وطورت الإمبراطورية الصينية مع الوقت نظامًا بيروقراطيًّا مركزيًّا، والذي جذب النخبة المجتمعية للعمل بالحكومة وجعل لهم مصلحة في بقاء الإمبراطورية. كما ساعدت المكافآت على خدمة الحكومة على بقاء الإمبراطورية متماسكة، وبسبب هذا التماسك ترددت باقي القوى في شرق آسيا في مهاجمتها. وهذا يعني أن الصين لم يكن لديها دوافع قوية للتطوير الحربي بسبب قلة التهديد الواقع عليها.

وعلى النقيض تمامًا، لم تختبر أوروبا الغربية مثل هذا التوحد أبدًا بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية. بل ما اختبرته كان قرونًا من الحروب بين جماعات وعصابات من المحاربين الذين يشبهون أمراء الحرب في يومنا هذا. بينما ساهم القتال المتصل في إعداد القادة الذين انتصروا في الحروب فيما بعد. كما تولدت صراعات أخرى بين القادة والأتباع، ثم تطورت تلك الصراعات في بعض الأحيان مكوِّنة حدودًا سياسية دائمة حتى يومنا هذا. وتسببت تلك الصراعات في عدم قدرة أي قائد أيًا كان على توحيد أوروبا الغربية في إمبراطورية واحدة طويلة العمر كما حدث في الصين لقرون طويلة. وعلى المدى البعيد، كان القادة العسكريون المنتصرون هم من استطاعوا فرض وجمع أكبر كمية من الضرائب الباهظة لتمويل حروبهم. فكانت النتيجة هي وجود ملوك أنفقوا مبالغَ خرافية على الحروب وتنطبق عليهم كلمات ميكافيللي “لا هدف، ولا أفكار، ولا حرفة… غير الحرب.”

ربما لم تكن أي إمبراطورية أوروبية لتنشأ بدون جمع الضرائب الباهظة والتركيز الأعمى على الحروب. فقد أعطت الحروبُ والأموالُ الكثيرة المنفقة عليها سبقًا كبيرًا جدًا للأوروبيين في مجال التقنيات العسكرية، مكنهم في النهاية من احتلال أغلب دول العالم وإبقاء الشعوب المُحتلة تحت السيطرة بدون الحاجة لأعداد كبيرة من الجنود الأوروبيين في الخارج. وبدون هذه المزايا ربما كان الأوروبيون سيصبحون أغنياء في النهاية – بل وربما يتجهون للتصنيع مبكرًا – لكنهم لم يكونوا ليهيمنوا على العالم في عام 1914.